مسجد مملوكي في القاهرة،

مسجد مملوكي في القاهرة،

 

هل نعيد الماضي أم نبني من جديد؟

من العوامل الحاسمة في تحديد قيمة الشعوب والحضارات؛ رغبتها الدائمة في البحث واكتشاف أفضل السبل لتجاوز الأخطاء.

ولن نتجاوز أخطائنا، ولن نخرج من دائرة البحث الفارغ عن الحضارة إلا بعد أن نتيقن أن حضارة الإسلام مستمرة عبر التاريخ، لكن ليس بشكلها الذي كانت عليه سابقا في عهد الخلافة الراشدة أو التي أتت بعدها، بل ستكون بشكل العصر الحديث الذي نعيشه.

انطلاقا من الفكرة فوق، نضع بين أيدينا إشكال إعادة الحضارة الإسلامية الآفلة، لنحدد الإجابة الصحيحة التي ستخلصنا من عبئ تاريخي قديم وتتقدم بنا إلى بناء حضارة.

        التراث ودوره في بناء أو إعادة بناء الحضارة.

) كيف نستعيد مجد حضارتنا..؟ كيف نحيي تراثنا..؟ ) يناقش المفكر محمد عابد الجابري هذا السؤال على أنه أكبر عقبة يعاني منها العقل السلفي في استشرافه لبناء المستقبل.

وقد قارب الصواب في نقاشه إلى حد كبير باعتبار أن استشراف المستقبل في العالم الإسلامي يرتهن بشكل طاغ إلى الماضي، ليس كما كان، بل كما كان يفترض أن يكون؛ أي مجرد صورة حلم[1].

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أمة عن تراثها والإلقاء بها في نقطة الانطلاق نحو الحضارة، فهذا لن ينتج سوى نسخة مشوهة تحمل عوامل الهدم منذ البداية، والملاحظ أن مجمل الأفكار الممهدة للنهوض الحضاري كانت تنطلق دائما من التراث، إما رافضة له، أو معتبرة إياه )أساسا) أو مغربلة إياه بعقل غربي، لكنها وعلى اختلافها تتفق في كونها تنطلق لتصل إلى نقطة الانطلاق؟ أي أن عملية التفكير تدور في حلقة التراث ولا تتعداه إلى مرحلة البناء، وهو ما جعل مفكرين من مثل محمد عابد الجابري يخصصون مجالا كبيرا من جهدهم البحثي حول كيفية التعامل مع التراث.

فليس من السهل والأمة الإسلامية في حالة جهل مركب بالذات الحضارية[2]  الدخول في دورة البناء دون تحديد طريقة سليمة نربط بها التراث بالمستقبل. والطريقة السليمة تتجلى في الارتكاز على الأصول والمبادئ الأولى التي قامت عليها الحضارة الإسلامية دون الالتفات إلى مظاهرها ونتائجها في سياق البناء.

وإبراز دور التراث في عملية الحضارة، يسهّل الاختيار بين إعادة الإحياء وبين البناء من جديد.

لأن فكرة إعادة بناء الحضارة مرتبطة بهاجس ماضوي لاشعوري يحرك عملية التفكير الجماعي الذي تقوم به الأمة الإسلامية، ويشد جهودها نحو البناء إلى تقليد وتكرار يبعدنا عن المستقبل. ويبقى الحل، في تحديد رؤيتنا للحضارة انطلاقا من أن الماضي يمثل تجارب للاستئناس وليس للتكرار.

وذلك يقودنا إلى قضية القياس بحضارة الغرب الحديثة، فهم في بنائهم انطلقوا من الماضي اليوناني البعيد باعتباره أصلا للحضارة، ونحن غير بعيدين عن الأصول الأولى لحضارتنا، وبالتالي يسهل استثمارها لإقصاء ما يراد له من التراث أن يكون أساسا للبناء وهو لا يعدو أن يكون اجتهادا بشريا صالحا لزمان ومكان محدّدين.

وتأسيسا على ما سبق فإن بناء الحضارة اليوم ينبغي أن يكون بناء جديدا يستوعب نقطة جوهرية تجيب عن إشكال الحضارة الإسلامية، وهي أننا نعيش بين زمانين؛ ماض إسلامي وحاضر حضاري غربي، فإن استوعبنا هذان المكونان سنتجه إلى مستقبل واعد ينقذنا من الارتهان الكلي إلى التراث، ويصد كل محاولات الجذب التي تحاول إغراقنا بمنتجات حضارة الغرب. فلن نبني دون نقد موضوعي يقوم بتصنيف منتجات الحضارة الغربية وتمييزها عن العوامل والشروط التي قامت عليها.  وكذا القطع مع عقل تقديس الاجتهادات الماضية.[3]

لأنه من الصعب اليوم الحديث عن خطوط واضحة تميز حضارة في طريق البناء عن حضارة قائمة، وفي هذا يقول المفكر العربي مالك بن نبي:” …ونحن في القرن العشرين نعيش في عالم يبدو فيه امتداد الحضارة الغربية قانونا تاريخيا لعصرنا… فمن العبث إذن أن نضع ستارا حديديا بين الحضارة التي يريد تحقيقها العالم الإسلامي، والحضارة الحديثة.)[4]

 

        اعتبار تتطلبه الظرفية الراهنة !

وباعتبار أن الحضارة تستلزم وتتطلب يقظة عامة وشعور جمعي يدشن دورة انطلاقها، فإن الواقع الإسلامي الراهن يعرف ميولا نحو ذاك الشعور لكنه ما زال في بدايات بدايته، والمطلوب الآن من النخب خصوصا الإسلامية تبني خطاب الإيقاظ وزرع روح الاعتزاز بالذات، ليس عن طريق الشعارات، وإنما بواسطة المشاريع النهضوية المتطلعة إلى المستقبل بعيون الحاضر، وليس بشواهد الماضي الذي كلما ظهرت فكرة للنهوض إلا ونجدها ترتكز على إعادة إحيائه كما افترض أصحابه له ذلك.

الهوامش:

1ـ راجع محمد عابد الجابري في كتابه نحن والتراث ص 13، الطبعة الثالثة  1993 الناشر: المركز الثقافي العربي بيروت لبنان.

2ـ أقصد بالجهل المركب للذات الحضارية: الفهم المتناقض لمكونات الشخصية المسلمة، حيث يبرز التناقض بين ما هو ضروري وما هو حاجي وبين الدين والتدين.

3ـ راجع مالك بن نبي، شروط النهضة ترجمة عبد الصبور شاهين، 1986 دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق.

4ـ نفسه ص 43.